فن التربية
نستنير من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم , من ميراثه , من دعوته , نتذاكره ونتعلمه , ونتربي
عليه , كما تربي عليه السابقون الأولون من سلفنا ـ رضوان الله تعالى عليهم .
تربيتنا لأنفسنا في كظم الغيظ :
ذكر الله ـ عز وجل ـ في محكم كتابه أصول هذا الفن , وذكرها رسولنا
عليه الصلاة والسلام بأخلاقه الشريفة العالية صلى الله عليه وسلم ,
فقال المولى جلت قدرته :
( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )
[آل عمران : 134].
قال أهل العلم : ثلاث منازل للمبتدئين والمقتصدين والسابقين بالخيرات :
1) : من أسيئ إليه فليكظم ، وهذه درجة المقصرين من أمثالنا من المسلمين ،
أن يكظم غيظه ، ولا يشفى لنفسه في المجالس ولا يتعرض للأعراض .
2) :فإن زاد وأحسن ( والعافين عن الناس ) يذهب إلى من أساء إليه ويقول له : عفا الله عنك .
3) : فإن زاد وأحسن ( والله يحب المحسنين ) يذهب بهدية أو بزيارة إلى من أساء إليه , ويصافحه ويقبله .
قال أهل السيرة :
قام خادم على هارون الرشيد بماء حار يسكب عليه ، فسقط الإبريق بالماء الحار على رأس الخليفة
أمير المؤمنين ...
حاكم الدنيا !!
فغضب الخليفة ، والتفت الى الخادم .
فقال الخادم ـ وكان ذكيا ـ : والكاظمين الغيظ !
قال الخليفة : كظمتُ غيظي .
قال : والعافين عن الناس !
قال : عفوتُ عنك ..
قال : والله يحب المحسنين .
قال : اذهب فقد أعتقتك لوجه الله !!
انظر إلى الصفاء , والنقاء , وانظر إلى الروعة !
إن هؤلاء البشر لم يخرجوا عن بشريتهم , ولم يكونوا يوماً من الأيام من
الملآئكة , ولكنهم كانوا في أروع صورة بشرية عرفتها الدنيا.
***
مر على ابن السماك صاحب له عتب عليه , فقال لابن السماك :
غداً نتحاسب ـ يعني غداً ألتقي معك أحاسبك وتحاسبني ,
ونعرف من هو المخطئ منا ـ فقال ابن السماك : لا والله , غداً نتغافر!
فالمؤمنون لا يتحاسبون , ولا يقول أحدهم للآخر : أنت كتبت في كذا ...
وقلت كذا , وسمعتُ أنك تغتابني ...و...و ... إلى الخ , لا ..
هذا أسلوب خاطئ ، والصحيح أن يقول له (( غفر الله لك )).
***
بذل الأعراض والأموال في سبيل الله :
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ذات يوم ,
فقام علبة ابن زيد فقال :
يارسول الله ! حثثت على الصدقة , وما عندي إلا عرضي , فقد تصدقت
به على من ظلمني , قال : فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ,
ولما كان في اليوم الثاني قال :
(( أين علبة ابن زيد , أو أين المتصدق بعرضه , فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد قبل ذلك منه )) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد :
رواه البزار وفيه محمد بن سلمان بن مشمول وهو ضعيف .
فهذا هو التصدق بالأعراض , ولا بد أن يبذل الدعاء وطلبة العلم أعراضهم كما بذلها محمد صلى الله
عليه وسلم ,
فإنه بذل عرضه وماله ودمه لهذه الدعوة الخالدة ,
فعسى الله أن يجعل دماءنا وأنفسنا وأعراضنا وأموالنا وأبنائنا وأهلنا فداء (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) .
فالمقصود من هذا أن الدنيا أمرها سهل وهين , وأن بعض الناس يتصدق بحسناته , فلا عليك مهما
نالك حاسد , أو ناقم , أو مخالف , أو منحرف ! فاعتبر ذلك في ميزان حسناتك , واعلم أن ذلك رفعة لك .
***
ويُروى في سيرة موسى عليه السلام أنه قال : يا رب , أريد منك أمر !!
قال : ما هو يا موسى ؟ ـ والله أعلم به ـ قال : أسألك أن تكف السنة الناس
عني ! قال الله ـ عز وجل ـ : يا موسى ، وعزتي وجلالي , ما اتخذتُ
ذلك لنفسي , إني أخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبونني !! سبحان الله !
الله , الرحمن , الأحد , الفرد , الصمد , الذي لم يلد ولم يولد , ولم يكن له
كُفْواً أحد , يُسبُّ من الناس !!
هذا المخلوق الضعيف , الذليل الحقير , الحشرة , يخرج نطفة , ثم يسبُّ
الله ويشتمه ـ جل وعلا ؟!
وفي البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( قال الله ـ تعالى ـ شتمني ابن آدم , وما ينبغي له أن يشتمني , ويكذبني
وما ينبغي له ! أما شتمه فقوله : إن لي ولداً , وأما تكذيبه فقوله :
ليس يعيدني كما بدأني )). البخاري (4/73).
فما دام أن الواحد الأحد ـ سبحانه وتعالى ـ يسبُّه ويشتمه بعض الأشرار من
خلقه ـ فكيف بنا نحن , ونحن أهل التقصير !!
إذ عُلم هذا فإنه خير دليل على المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام ـ ورضي الله عنهم
ـ فتراضوا واختلفوا كما يختلف البشر,
وأتت بينهم نفرةٌ في أيام من حياتهم !
ولكنهم عادوا في صفاء , وفي عناق , وفي صبور , وفي محبة , لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأ واحد ,
وليس مبادئ متعددة ، فمبدؤهم :
(( لا إله إلا الله محمد رسول الله )) .
وما حصل بينهم دليل على أنهم لم يخرجوا عن بشريتهم , ولم يصبحوا
ملائكة , ولم يخرجوا من عموم قوله صلى الله عليه وسلم :
(( كل بني آدم خطاء )) . أخرجه الترمذي ( 4/569).
وفي سيرة أبي بكرـ رضي الله عنه ـ أن رجل قال لأبي بكر والله يا أبا بكر
لأسُبنّك سباً يدخل معك في قبرك , قال أبو بكر بل يدخل معك قبرك أنت لا معي !!
صدق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ فإن المسبوب لا يدخل معه السبُّ , ولكن يدخل السبُّ مع السابَّ الذي
سلط لسانه على عباد الله .
أفيظن هذا الجاهل أنه إذ سب أو شتم أو نال من أبي بكر أن شتمه هذا سوف يدخل مع أبو بكر القبر ؟
فهذا جهل , وأي جهل !!
حين تكسر الروح يفتح ما في السماء من أبواب
***
اجتمعنا تحت راية الإسلام
لم نجتمع على لغة , فإن اللغات شتا.
ولكن اجتمعنا على عقيدة , وعلى مبدأ أتيَ به محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )).
هذا المبدأ العظيم , جعلنا نتآخى ونجتمع بعد فرقة وشتات .
فكلما حدثت جفوة , أو حصل هجر , عُدنا إلى الدين , وتذكرنا أننا نصلي الصلوات الخمس , وأننا نتَّجه
إلى قبلة واحدة , ونتبع رسولاً واحداً ،
ونعبد رباً واحداً , ومعنا كتاب واحد , وسنة واحدة , فلله الحمد .
إن ما يجري بين الأحبة من خلاف ـ أحياناً ـ لا يفسد للود قضية ,
ولا يغيَّر ما في النفوس , فإن الله يقول : ( ولو شآء ربك ما فعلوه )
[ الأنعام :112].
فإن مشيئة الله ـ يحدث مثل هذا , وفي ذلك من المصالح العظيمة ما الله به عليم .
يقول المتنبي :
لعل عتبك محمودُ عواقبهُ
وربَّما صَحَّت الأجساد بالعَللِ
ولعلنا نكره شيئاً فيه خير كثير , ونحب شيئاً فيه شر كثير.
ولله الحكمة البالغة .
لا تُد بَّرْ لك أمراً
فأولو التدبير هَلْكى
وأرضىَ بالله حكماً
نحن أولى بك منكا.
لا تكره من أمر الله شيئاً , (( ورب ضارة نافعة )).
فأحياناً تحدث أمور يكون فيها من المصالح العظيمة التي لا يدركها البشر بعقولهم , ولا بتخطيطهم ، ولا
بتصريفهم !
ومن هذه الأمور ما يكون قوة للإنسان ورفعة , ومنزلة وحماية , وكفارة ,
ودرجة , وكان يحسب هو أنها نقمة , وأنها ضربة له , وأنها كارثة ,
فلله الحكمة البالغة ، ولا بد للعبد أن يقول كلما أصبح وأمسى :
(( رضيت بالله رباً , وبالإسلام ديناً , وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ))
فإنه ليس بيننا وبين أحد من الناس شجار لأسباب دنيوية , ولا لذواتنا,
ولا لأنفسنا , فإن العبد عليه ان يسعى لمصلحة هذا الدين , ولمصلحة الأمة , ونكون تحت مظلة :
(( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنهُ عزيز
حكيم )) [ الأنفال : 63].
اللهم أعصمنا من الزلل , وأنقذنا من الخطل , وأخرجنا من الحادث الجلل.
اللهم ثبت منا الأقدام , وسدد منا السهام , وارفع منا الأعلام , وانصرنا بالإسلام .
اللهم انزع من قلوبنا الغل على الإخوان , والضغينة على الجيران , والحسد للأقران .
اللهم أغسل قلوبنا بماء اليقين , واسق أرواحنا من كوثر الدين , وأثلج صدورنا بسكينة المؤمنين .
اللهم أمين
وصلاة على خير المرسلين صلى الله عليه وسلم