لا حياة بلا وطن.. ولا وطن بلا حياة.. وشيجتان مترابطتان تمثلان أمتزاج الانسان بأرضه، بطينة بترابه، بحره وبقرّه، بغناه وفقره، بل بظلمه وعدله، فالحرمان والبعد عن الوطن من أشد الأشياء شجناًولوعة ووجعاً على النفس والقلب. بل هو الشقاء الذي لا شقاء بعده. فالوطن هو محفظة الروح، وحينما تغادره فأنت تنسل من جذرك ومن محفظة روحك.
الوطن وشم في باطن القلب وظاهره،يلوح في الذاكرة والوجدان. هو ذلك الهاجس الجميل الذي تحمله في زوايا قلبك، وغبار أمتعتك،وخبايا نفسك، وفوق أهدابك، تغمض عينيك عليه فتشعر أن نفسك تفيض حناناً،وحباً، ورضا.الوطن هو أن يسكنك وتسكنه هو أنت، وأنت هو.. حتى وإن أقلقك، وأتعبك بوعثاء السير في دروبه، ومهما قسا عليك فلا مفر منه إلا إليه.
لا يعرف حب الأوطان إلا من كابد مواجع الابتعاد، وعذابات الرحيل.
مَنء جرّب "البعد" لا يَنسى مواجعه
ومَنء رأى السمّ لا يشقَى كمن شَرِبا
لا يعرف حب الوطن إلا أولئك الذين أخرجوا من ديارهم، أو أولئك الذين أجبروا على الرحيل عنها، أو الذين قذفت بهم صروف الحياة، فراحوا يتكسرون على موانىء التغرب، وشواطىء الرحيل. فاؤلئك هم ضعفاء الناس.. تغلق في وجوههم دروب الحياة كلما أغلقت في وجوههم بوابات أوطانهم، فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وينغلق عليهم فيها ما اتسع، ومهما تدانت أطراف الكون، وتقاربت أبعاده، فإن الوطن دائماً يشب ويكبر، ينمو، ويتسع، ويتطاول في عيون محبيه.. إن للوطن حباً يلج باطن القلب، ويلج في خبايا الذاكرة، له رائحة لا يشمها إلاّ النازحون عنه النازفون بالشوق والحنين إليه.
يظل الوطن بجباله، ونخله المتطاول عزاً ومهابة.. يظل برمله وسرابه، بقادته ورجاله، بأطفاله وشيوخه، بحرّه وبرده مخبأ للقلب، ومتكأ للطمأنينة. فهو الأب الحاني الكبير الذي نقسو عليه في بعض حالاتنا فيحنو علينا.. نأخذ منه فيعطينا، ونعصيه أحياناً فيبرنا، ويمنحنا بلا منًّ أو أذى.. ومهما حاولنا رد جميله فإنا لن نستطيع إلا أن نزداد عشقاً وحباً له، وبراً به، نتسامح معه حتى في لحظات خطئه، مثلما هو متسامح معنا في لحظات خطئنا وتقصيرنا. فالذين لا أوطان لهم هم حقاً مساكين الناس فلا أمن لهم، ولا عز لهم. بل الذين لا أوطان لهم لا بواكي لهم! فهل نحن نتعاطى مع الوطن كما يتعاطا معنا. نبادله حباً بحب ووفاء بوفاء؟ لست أدري ولكن ما أكثر الذين يحلبون اشطار الوطن، فيبنون أعشاشاً بعيدة عن شجره.. بل ما أكثر الذين يأكلون ثمرة، ويرمون بالحجارة شجره.. ما أكثر الذين لا يفهمون من الأوطان إلا أن تكون أمكنة جباية، ونهب.. بل ما أكثر الذين نهبوا، وتضخمت بطونهم، وحقائبهم من خيراته، ثم صاروا ينظرون إليه بجحود، وتنكر ونكران... بل هناك من هم أسوأ منهم وهم أولئك الذين يحاولون تمزيق وحدته الاجتماعية، والفكرية بسكاكين حقدهم وكراهيتهم.. ووالله إني لأسمع لبعض الأقلام صريراً كصرير الخناجر في جسد الوطن طعناً، وتمزيقا، كل ذلك باسم الوطن بينما هم في الواقع ينفذون أجندتهم، ويعملون على تحقيق مآربهم، ويكيدون له كيداً، تحت ذرائع مختلفة، وبوجوه مختلفة، وبأقنعة مختلفة.. يلبسون لباس المسوح وأنيابهم تقطر بالدم والسم.. وكم أشعر بالأسى والألم بسبب ذلك الترويج لما ينثرون وينشرون من أذى ومقت. بل أشعر أننا اذا تركنا أولئك وهؤلاء في غيهم، فإننا نمارس عقوقاً بحق الوطن. بل نرتكب أكبر معصية تاريخية في حقه، ومن ثم فإنه أصبح لزاما علينا وعلى كل المخلصين والغيورين أن نقف بكل حزم في وجوه أولئك الذين يمارسون الإرهاب الخفي، والحقد الخفي.. فكل شيء يمكن التسامح فيه الا العبث ببيتنا الكبير.. لقد صار حتما علينا أن نكافح كل الأوبئة والجرذان التي تحاول ثقب وتخريب أسّ بنائه.. فهذه أبسط مبادئ الوطنية الحقة. فالوطنية تنبه وحذر وهمّ واهتمام وحرص واستيقاظ، وليست كما يتوهم البعض بأن الوطنية مجرد عباءة نرتديها في المناسبات ثم نخلعها ونعلقها على مشجب الاهمال والنسيان]