حصريا ولأول مره على المنتدى قصه سيدنا محمد (أشرف خلق الله عليه الصلاه والسلام)( كامله)
كاتب الموضوع
رسالة
الجوكر112
صديق جديد
معلومات إضافية
الجنسية : مصرى
الجنس :
عدد المساهمات : 20
إحترام قوانين المنتدى : 0
تاريخ التسجيل : 09/06/2010
العمل : مصرى
المزاج : ممتاز
كيف تعرفت علينا ؟ : من هنا
موضوع: حصريا ولأول مره على المنتدى قصه سيدنا محمد (أشرف خلق الله عليه الصلاه والسلام)( كامله) الخميس 10 يونيو 2010 - 15:00
المــولــد:
ولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو شروان، ويوافق ذلك العشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريل سنة 571م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصور فورى والمحقق الفلكي محمود باشا.
وروى ابن سعد أن أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام. وروى أحمد عن العرباض بن سارية ما يقارب ذلك.
وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك البيهقي ولا يقره محمد الغزالي.
في بني سعد: وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر؛ لتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الرضعاء، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر - وهي حليمة بنت أبي ذؤيب - وزوجها الحارث بن عبد العزى المكنى بأبي كبشة، من نفس القبيلة.
وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة عبد اللَّه بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث (وهي الشيماء - لقب غلب على اسمها) وكانت تحضن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعاً في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من وجهين، من جهة ثويبة، ومن جهة السعدية.
ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركها تروي ذلك مفصلاً
قال ابن إسحاق كانت حليمة تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه، في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئاً، قالت: فخرجت على أتان لي قمراء، معنا شارف لنا، واللَّه ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أدمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها إنه يتيم. وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده فكنا نكره لذلك فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيري. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي واللَّه إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً، واللَّه لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى اللَّه أن يجعل لنا بركة، قالت: فذهبت إليه، فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا تعلمي واللَّه يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت واللَّه إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فواللَّه لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك أربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن بلى واللَّه إنها لهي هي، فيقلن: واللَّه إن لها شأناً، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضاً من أرض اللَّه أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعاً لبناً، فلم نزل نتعرف من اللَّه الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً، قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا.
وهكذا بقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بني سعد، حتى إذا كانت السنة الرابعة أو الخامسة من مولده وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم،ثم لأمه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
إلى أمه الحنون: وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين.
ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجها الراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متراً ومعها ولدها اليتيم - محمد صلى الله عليه وسلم - وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهراً ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ يلاحقها المرض، يلح عليها في أوائل الطريق، فماتت بالأبواء بين مكة والمدينة.
إلى جده العطوف: وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنان في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا ابني هذا فواللَّه إن له لشأناً، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه ويصنع.
ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفى جده عبد المطلب بمكة، ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه.
إلى عمه الشفيق: ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده، وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.
حياة الكدح: ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنماً، رعاهافي بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجراً إلى الشام في مال خديجة رضي اللَّه عنها، قال ابن إسحاق كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً فلما بلغها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.
زواجه خديجة: ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة - وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبى عليهم ذلك - فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منية، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضي بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة، وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بكرة. وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسباً وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم، ولدت له أولاً القاسم - وبه كان يكنى - ثم زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة وعبد اللَّه، وكان عبد اللَّه يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدر كن الإسلام فأسلمن وهاجرن، إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى الله عليه وسلم سوى فاطمة رضي اللَّه عنها فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به.
بناء الكعبة وقضية التحكيم: ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة وذلك لأن الكعبة كانت رضما فوق القامة. ارتفاعها تسع أذرع من عهد إسماعيل ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت - باعتبارها أثراً قديماً - للعوادي التي أدهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصاً على مكانتها، واتفقوا على أن لا يدخلوا في بنائها إلا طيباً، فلا يدخلوا فيا مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي، وتبعه الناس لما رأوا أنه لم يصبه شيء، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة وخصصوا لكل قبيلة جزءاً منها. فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه باقوم، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليال أو خمساً واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء اللَّه أن يكون ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه هتفوا هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعاً بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده، فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحواً من ستة أذرع وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض، لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعاً سقفوه على ستة أعمدة.
وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريباً يبلغ ارتفاعه 15متراً وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود، والمقابل له 10و10م، والحجر موضوع على ارتفاع 50و1م من أرضية المطاف، والضلع الذي فيه لباب والمقابل له 12م، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 25و0م ومتوسط عرضها 30و0م وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشاً تركتها.
السيرة الإجمالية قبل النبوة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظاً وافراً من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناء الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأى عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسناً شارك فيه، وإلا عاد إلى عزلته العتيدة فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً، بل كان من أول نشأته نافراً من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى.
ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، روى ابن الأثير قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول اللَّه بيني وبينه ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعي معي الغنم بأعلى مكة لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب فقال: أفعل فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً، فقلت ما هذا فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب اللَّه على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بسوء.
وروى البخاري عن جابر بن عبد اللَّه قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري، فشد عليه إزاره وفي رواية فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأعزهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وألينهم عريكة، وأعفهم نفساً، وأكرمهم خيراً، وأبرهم عملاً، وأوفاهم عهداً، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه "الأمي" لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي اللَّه عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق. __________________
في ظلال النبوة والرسالة
في غار حراء: ولما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة - وهو غار لطيف طوله أربع أذرع، وعرضة ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ومعه أهله قريباً منه، فيقيم فيه شهر رمضان، يطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون، وفيما وراءها من قدرة مبدعة وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفاً من تدبير اللَّه له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم. ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى... لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
وهكذا دبر اللَّه لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ... دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن اللَّه.
جبريل ينزل بالوحي: ولما تكامل له أربعون سنة - وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل - بدأت آثار النبوة تتلوح وتتلمع له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر - ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة - فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء اللَّه أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن.
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلاً، ويوافق 10 أغسطس سنة 610م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و 12 يوماً، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و12 يوماً.
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي اللَّه تعالى عنها تروي لنا قصة هذه الوقعة التي كانت شعلة من نور اللاهوت أخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي اللَّه عنها:
أول ما بدىء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي هي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ فقلت ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارىء، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 1-3]. فرجع بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ما لي وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة كلا، واللَّه ما يخزيك اللَّه أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي - فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة هذا الناموس الذي نزله اللَّه على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
وروى الطبري وابن هشام ما يفيد أنه خرج من غار حراء بعد ما فوجيء بالوحي ثم رجع وأتم جواره، وبعد ذلك رجع إلى مكة، ورواية الطبري تلقي ضوءاً على سبب خروجه وهذا نصها:
"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذكر مجيء الوحي ولم يكن من خلق اللَّه أبغض علي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق ان انظر إليهما قال: قلت إن الابعد يعني نفسه شاعر أو مجنون إلا تحدث بها عني قريش أبداً لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها، فلأستريحن قال: فخرجت أريد ذلك، حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول يا محمد أنت رسول اللَّه، وأنا جبريل، قال: فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول يا محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، قال: فوقفت أنظر إليه، وشغلني ذلك عما أردت، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما أتقدم أمامي، ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مقامي، ثم انصرف عني وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها (ملتصقاً بها مائلاً إليها) فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فواللَّه لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي، ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم قامت فانطلقت إلى ورقة وأخبرته. فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له فليثبت، فرجعت خديجة وأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف إلى مكة لقيه ورقة وقال بعد ان سمع فيه خبره والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى". __________________
فترة الوحي: أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد أنها كانت أياماً وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب. وأما ما اشتهر من أنها دامت طيلة ثلاث سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال، وليس هذا موضع التفصيل في رده.
وقد بقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيباً محزوناً تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه
"وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً عدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول اللَّه حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك".
جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية: قال ابن حجر: وكان ذلك (أي انقطاع الوحي أياماً)، ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما تقلصت ظلال الحيرة، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أضحى نبياً للَّه الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء وصار تشوفه وارتقابه لمجيء الوحي سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود، جاءه جبريل للمرة الثانية. روى البخاري عن جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، (قال):
"فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجشثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل اللَّه تعالى: "يأيها المدثر" إلى قوله: "فاهجر"، ثم حمى الوحي وتتابع".
استطراد في بيان أقسام الوحي: قبل أن نأخذ في تفصيل حياة الرسالة والنبوة، نرى أن نتعرف أقسام الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة. قال ابن القيم - وهو يذكر مراتب الوحي
إلاولي: الرؤيا الصادقة وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم .
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا للَّه، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصي اللَّه، فإن ما عند اللَّه لا ينال إلا بطاعته.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء اللَّه أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر اللَّه ذلك في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه اللَّه إليه، وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام اللَّه له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم اللَّه موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن. وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء.
وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم اللَّه له كفاحاً من غير حجاب، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف. انتهى مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولى والثامنة. __________________
أمر القيام بالدعوة إلى اللَّه، وموادها: تلقى النبي صلى الله عليه وسلم أوامر عديدة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] أوامر بسيطة ساذجة في الظاهر، بعيدة المدى والغاية، قوية الأثر والفعل في الحقيقة ونفس الأمر.
فغاية القيام بالإنذار أن لا يترك أحداً ممن يخالف مرضاة اللَّه في عالم الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه.
وغاية تكبير الرب أن لا يترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها، وتقلب ظهراً لبطن، حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء اللَّه تعالى.
وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن وفي تزكية النفس من جميع الشوائب والألواث إلى حد وكمال يمكن لنفس بشرية تحت ظلال رحمة اللَّه الوارفة وحفظه وكلئه وهدايته ونوره، حتى يكون أعلى مثل في المجتمع البشري، تجتذب إليه القلوب السليمة، وتحس بهيبته وفخامته القلوب الزائغة، حتى ترتكز إليه الدنيا بأسرها وفاقاً أو خلافاً.
وغاية عدم الاستكثار بالمنة أن لا يعد فعالاته وجهوده فخيمة عظيمة، بل لا يزال يجتهد في عمل بعد عمل، ويبذل الكثير من الجهد والتضحية والفناء، ثم ينسى كل ذلك، بل يفنى في الشعور باللَّه بحيث لا يحس ولا يشعر بما بذل وقدم.
وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة والاستهزاء والسخرية إلى الجد والاجتهاد في قتله وقتل أصحابه، وإبادة كل من التف حوله من المؤمنين، يأمر اللَّه تعالى أن يصبر على كل من ذلك بقوة وجلادة، لا لينال حظاً من حظوظ نفسه، بل لمجرد مرضاة ربه.
اللَّه أكبر ما أبسط هذه الأوامر في صورتها الظاهرة، وما أروعها في إيقاعاتها الهادئة الخلابة، ولكن ما أكبرها وأفخمها وأشدها في العمل، وما أعظمها إثارة لعاصفة هوجاء تحضر جوانب العالم كله، وتتركها يتلاحم بعضها في بعض.
والآيات نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ، فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك أعمالاً لها عاقبة سوآى يلقاها أصحابها، ونظراً لما يعرفه كل أحد أن الدنيا لا يجازي فيها بكل ما يعمل الناس، بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال. فالإنذار يقتضي يوماً للمجازاة غير أيام الدنيا، وهو الذي يسمى بيوم القيامة ويوم الجزاء والدين، وهذا يستلزم حياة أخرى غير الحياة التي نعيشها في الدنيا.
وسائر الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح، وتفويض الأمور كلها إلى اللَّه تعالى، وترك مرضاة النفس، ومرضاة العباد إلى مرضاة اللَّه تعالى.
فإذن تتلخص هذه المواد في:
أ - التوحيد.
ب - الإيمان بيوم الآخرة.
ج - القيام بتزكية النفس بأن تتناهى عن المنكرات والفواحش التي تفضي إلى سوء العاقبة، وبأن تقوم باكتساب الفضائل والكمالات وأعمال الخير.
د - تفويض الأمور كلها إلى اللَّه تعالى.
هـ - وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتحت قيادته النبيلة وتوجيهاته الرشيدة.
ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي - في صوت الكبير المتعال - بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم، والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} ... كأنه قيل: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم؟ وما لك والراحة؟ وما لك والفراش الدافيء؟ والعيش الهادىء؟ والمتاع المريح قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب، والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.
إنها لكلمة عظيمة رهيبة تنزعه من دفء الفراش في البيت الهادىء والحضن الدافىء لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
وقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائماً على دعوة اللَّه يحمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، منذ أن سمع النداء العلوي الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب جزاه اللَّه عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.
وليست الأوراق الآتية إلاَّ صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد. __________________
موضوع: رد: حصريا ولأول مره على المنتدى قصه سيدنا محمد (أشرف خلق الله عليه الصلاه والسلام)( كامله) الخميس 10 يونيو 2010 - 15:01
أدوار الدعوة ومراحلها:
يمكن أن نقسم عهد الدعوة المحمدية - على صاحبها الصلاة والسلام والتحية - إلى دورين يمتاز أحدهما عن الآخر تمام الامتياز وهما
الدور المكي، ثلاث عشرة سنة تقريباً.
الدور المدني، عشر سنوات كاملة. ثم يشتمل كل من الدورين على مراحل لكل منها خصائص تمتاز بها عن غيرها، ويظهر ذلك جلياً بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال الدورين.
ويمكن تقسيم الدور المكي إلى ثلاث مراحل:
مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنين.
مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة.
مرحلة الدعوة خارج مكة، وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
أما مراحل الدور المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه.
المرحلة الأولى جهاد الدعوة ثلاث سنوات من الدعوة السرية: معلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عسراً وشدةً عما لو كان بعيداً عنها، فالأمر يحتاج إلى عزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث، لذا كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم.
الرعيل الأول: وكان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولاً على ألصق الناس به وآل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه خيراً ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء - الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره - جمع عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد ابن ثابت بن شرحبيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب - وكان صبياً يعيش في كفالة الرسول - وصديقه الحميم أبو بكر الصديق. أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة.
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألفاً محبباً سهلاً، ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان الأموي، والزبير بن العوام الأسدي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد اللَّه التيمي، فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام.
ومن أوائل المسلمين بلال بن رباح الحبشي، ثم تلاهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم المخزوميان، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد اللَّه، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوي، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت وعبد اللَّه بن مسعود الهذلي وخلق سواهم، وأولئك هم السابقون الأولون، وهم من جميع بطون قريش وعدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً، وفي ذكر بعضهم في السابقين الأولين نظر.
قال ابن إسحاق ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به.
أسلم هؤلاء سراً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويرشدهم إلى الدين متخفياً لأن الدعوة كانت لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع وحمى نزوله بعد نزول أوائل المدثر، وكانت الآيات وقطع السور التي تنزل في هذا الزمان آيات قصيرة، ذات فواصل رائعة منيعة، وإيقاعات هادئة خلابة تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق، تشتمل على تحسين تزكية النفوس، وتقبيح تلويثها برغائم الدنيا، تصف الجنة والنار كأنهما رأي عين، تسير بالمؤمنين في جو آخر غير الذي فيه المجتمع البشري آنذاك.
الصــلاة: وكان في أوائل ما نزل الأمر بالصلاة، قال مقاتل بن سليمان: فرض اللَّه أول الإسلام الصلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55] وقال ابن حجر: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعاً، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شيء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. انتهى. وروى الحارث بن أسامة من طريق ابن لهيعة موصولاً عن زيد بن حارثة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل، فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه. وقد روى ابن ماجه بمعناه. وروي نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس وفي حديث ابن عباس وكان ذلك من أول الفريضة.
وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهما بالثبات.
الخبر يبلغ إلى قريش إجمالاً: يبدو بعد النظر في نواح شتى من الوقائع أن الدعوة - في هذه المرحلة - وإن كانت سرية وفردية لكن بلغت أنباءها إلى قريش، بيد أنها لم تكترث بها.
قال الشيخ محمد الغزالي: "وترامتهذه الأنباء إلى قريش فلم تعرها اهتماماً، ولعلها حسبت محمداً أحد أولئك الديانين، الذي يتكلمون في الألوهية وحقوقها، كما صنع أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة، وعمرو بن نفيل وأشباههم، إلا أنها توجست خيفة من ذيوع خبره وامتداد أثره، وأخذت ترقب على الأيام مصيره ودعوته".
مرت ثلاث سنين والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها ثم تنزل الوحي يكلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم.
المرحَلة الثانية الدعوة جهاراً أول أمر بإظهار الدعوة: أول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] والسورة التي وقعت فيها الآية - وهي سورة الشعراء - ذكرت فيها أولاً قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، ونجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى اللَّه. مع العلم أن هذا التفصيل إنما جيء به حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلى اللَّه، ليكون أمامه وأمام أصحابه نموذجاً لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ بداية دعوتهم. ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة - علاوة على ما ذكر من أمر فرعون وقومه - ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب بما يؤول إليه أمرهم وبما سيلقون من مؤاخذة اللَّه إن استمروا على التكذيب، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم لا للمكذبين.
الدعوة في الأقربين: وأول ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أنه دعا بني هاشم فحضروا، ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلاً. فبادره أبو لهب وقال: وهؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصُّباة. واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولم يتكلم في ذلك المجلس. ثم دعاهم ثانية وقال: الحمد للَّه أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله واللَّه الذي لا إله إلا هو، إني رسول اللَّه إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، واللَّه لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً. فقال أبو طالب ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقاً لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به، فواللَّه لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. فقال أبو لهب هذه واللَّه السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب واللَّه لنمنعه ما بقينا.
على جبل الصفا: وبعد ما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته، وهو يبلغ عن ربه، قام يوماً على الصفا فصرخ: يا صباحاه، فاجتمع إليه بطون قريش، فدعاهم إلى التوحيد والإيمان برسالته وباليوم الآخر. وقد روى البخاري طرفاً من هذه القصة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر...! يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. وروى مسلم طرفاً آخر من هذه القصة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه. قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعم وخص. فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني واللَّه لا أملك لكم من اللَّه شيئاً، إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها. هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم. وأن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند اللَّه.
الصدع بالحق وردود فعل المشركين: ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعكر على خرافات الشرك وترهاته، ويذكر حقائق الأصنام وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين اللَّه فهو في ضلال مبين. انفجرت مكة بمشاعر الغضب وماجت بالغرابة والاستنكار حين سمعت صوتاً يجهر بتضليل المشركين وعباد الأصنام، كأنه صاعقة قصفت السحاب فرعدت وبرقت وزلزلت الجو الهادىء، وقامت قريش تستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، ويخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها. قامت لأنها عرفت أن معنى الإيمان بنفي الألوهية عما سوى اللَّه، ومعنى الإيمان بالرسالة وباليوم الآخر هو الانقياد التام والتفويض المطلق، بحيث لا يبقى لهم خيار في أنفسهم وأموالهم فضلاً عن غيرهم، ومعنى ذلك انتفاء سيادتهم وكبريائهم على العرب، التي كانت بالصبغة الدينية، وامتناعهم عن تنفيذ مرضاتهم أمام مرضاة اللَّه ورسوله، وامتناعهم عن المظالم التي كانوا يفترونها على الأوساط السافلة، وعن السيئات التي كانوا يجترحونها صباح مساء، عرفوا هذا المعنى فكانت نفوسهم تأبى عن قبول هذا الوضع المخزي لا لكرامة وخير {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5 عرفوا كل ذلك جيداً، ولكن ماذا سيفعلون أمام رجل صادق أمين، أعلى مثل للقيم البشرية ولمكارم الأخلاق، لم يعرفوا له نظيراً ولا مثيلاً خلال فترة طويلة من تاريخ الآباء والأقوام؟ ماذا سيفعلون؟ تحيروا في ذلك، وحق لهم أن يتحيروا. وبعد إدارة فكرتهم لم يجدوا سبيلاً إلا أن يأتوا إلى عمه أبي طالب، فيطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما هو فيه، ورأوا لإلباس طلبهم لباس الجد والحقيقة أن يقولوا: إن الدعوة إلى ترك آلهتهم، والقول بعدم نفعها وقدرتها سبة قبيحة وإهانة شديدة لها، وفيه تسفيه وتضليل لآبائهم الذين كانوا على هذا الدين، وجدوا هذا السبيل فتسارعوا إلى سلوكها.
موضوع: رد: حصريا ولأول مره على المنتدى قصه سيدنا محمد (أشرف خلق الله عليه الصلاه والسلام)( كامله) الخميس 10 يونيو 2010 - 15:02
وفد قريش إلى أبي طالب: قال ابن إسحاق مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم رداً جميلاً فانصرفوا عنه ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين اللَّه ويدعو إليه.
المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة: وخلال هذه الأيام أهم قريشاً أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لا بد من كلمة يقولونها للعرب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد أجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت فقل، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: لا واللَّه ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول مجنون قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: واللَّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك. وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا: أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم أمهلوني حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفاً. وفي الوليد أنزل اللَّه تعالى ست عشرة آية من سور المدثر وفي خلالها صور كيفية تفكيره، فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 18-25]. وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه فجلسوا بسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. والذي تولى كبر ذلك هو أبو لهب، فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبع الناس إذا وافى الموسم في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى اللَّه، وأبو لهب وراءه يقول لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب. وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
أساليب شتى لمجابهة الدعوة: ولما رأت قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يصرفه عن دعوته هذا ولا ذاك، فكروا مرة أخرى واختاروا لقمع هذه الدعوة أساليب تتلخص فيما يأتي: السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك، قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالجنون {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] ويصمونه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات متلهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقال {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وكانوا كما قص اللَّه علينا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29- 33]. تشويه تعاليمه وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، ونشر الإيرادات الواهية حول هذه التعاليم، وحول ذاته وشخصيته، والإكثار من كل ذلك بحيث لا يبقى للعامة مجال في تدبر دعوته، فكانوا يقولون عن القرآن {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الفرقان: 5] {إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] وكانوا يقولون: {إنما يعلمه بشر} [النحل: 16] وكانوا يقولون عن الرسول صلى الله عليه وسلم : {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وفي القرآن نماذج كثيرة للردود على إيراداتهم بعد نقلها أو من غير نقلها معارضة القرآن بأساطير الأولين، وإشغال الناس بها عنه. فقد ذكروا أن النضربن الحارث قال مرة لقريش يا معشر قريش واللَّه لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر، لا واللَّه ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، قلتم كاهن، لا واللَّه ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر، لا واللَّه ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أوصافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم مجنون، لا واللَّه ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه واللَّه لقد نزل بكم أمر عظيم. ثم ذهب النضر إلى الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وأسفنديار، فكان إذا جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلساً للتذكير باللَّه والتحذير من نقمته خلفه النضر، ويقول واللَّه ما محمد بأحسن حديثاً مني، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وأسفنديار، ثم يقول بماذا محمد أحسن حديثاً مني. وتفيد رواية ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قينات، فكان لا يسمع برجل مال إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا سلط عليه واحدة منها تطعمه وتسقيه وتغني له حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام وفيه نزل قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل اللَّه. مساومات حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض ما هو عليه {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فهناك رواية رواها ابن جرير والطبراني تفيد أن المشركين عرضوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عاماً ويعبدون ربه عاماً، ورواية أخرى لعبد بن حميد تفيد أنهم قالوا: لو قبلت آلهتنا نعبد إلهك. وروى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالكعبة - الأسود، المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمي - وكانوا ذوي أسنان في قومهم - فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل اللَّه تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}... السورة كلها. وحسم اللَّه مفاوضتهم المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة. ولعل اختلاف الروايات لأجل أنهم حاولوا هذه المساومة مرة بعد أخرى.
الاضطهادات: أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئاً فشيئاً لكف الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب، لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لا تجدي لهم نفعاً في كف الدعوة الإسلامية اجتمعوا مرة أخرى وكونوا منهم لجنة أعضاؤها خمسة وعشرون رجلاً من سادات قريش، رئيسها أبو لهب عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وبعد التشاور والتفكر اتخذت هذه اللجنة قراراً حاسماً ضد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وضد أصحابه. فقررت أن لا تألو جهداً في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله، وتعذيب الداخلين فيه، والتعرض لهم بألوان من النكال والإيلام. اتخذوا هذا القرار وصمموا على تنفيذه. أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما المستضعفين منهم - فكان ذلك سهلاً جداً. وأما بالنسبة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه كان رجلاً شهماً وقوراً ذا شخصية فذة تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثلها إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترىء على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين كان معظماً في أصله، معظماً بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلق قريشاً وأقامهم وأقعدهم، ولكن إلام هذا الصبر الطويل أمام دعوة تتشوف إلى القضاء على زعامتهم الدينية، وصدارتهم الدنيوية. وبدأوا الاعتداءات ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم أبو لهب، فقد اتخذ موقفه هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول قبل أن تهم قريش بذلك. وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا، وقد ورد في بعض الروايات أنه - حينما كان على الصفا - أخذ حجراً ليضرب به النبي صلى الله عليه وسلم . وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما. ولما مات عبد اللَّه - الابن الثاني لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب، وهرول إلى رفقائه يبشرهم بأن محمداً صار أبتر. وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، قد روى طارق بن عبد اللَّه المحاربي ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمي عقباه. وكانت امرأة أبي لهب - أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان - لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلاً، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حرباً شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب. ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر أي بمقدار ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ اللَّه ببصرها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، واللَّه لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما واللَّه إني لشاعرة. ثم قالت: مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا ثم انصرفت، فقال أبو بكر يا رسول اللَّه أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ اللَّه ببصرها عني. وروى أبو بكر البزار هذه القصة. وفيها أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر هجانا صاحبك، فقال أبو بكر لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوّه به، فقالت: إنك لمصدق. كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجاره كان بيته ملصقاً ببيته كما كان غيره من جيران رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته. قال ابن إسحاق كان النفر الذين يؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم حجراً ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه، ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق. وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم (وهو عقبة بن أبي معيط) فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع على ظهرهبين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض (أي يتمايل بعضهم على بعض مرحاً وبطراً) ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وقال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط - وعد السابع فلم يحفظه - فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر. وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل: {ويل لكل همزة لمزة} قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به، واللمزة: الذي يعيب الناس سراً ويؤذيهم. أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبياً أنبه وعاتبه وطلب منه أن يتفل في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ففعل. وأبى بن خلف نفسه فت عظماً رميماً ثم نفخه في الريح نحو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13]. وكان أبو جهل يجيء أحياناً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى ويؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل اللَّه، ثم يذهب مختالاً بما يفعل، فخوراً بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئاً يذكر، وفيه نزل: {فلا صدَّق ولا صلى}...الخ وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد ألن أنهك عن هذا، وتوعده فأغلظ له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وانتهره. فقال: يا محمد بأي شيءٍ تهددني؟ أما واللَّه إني لأكثر هذا الوادي نادياً. فأنزل فليدع ناديه وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه وهو يقول له: {أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى} فقال عدو اللَّه أتوعدني يا محمد؟ واللَّه لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً، وإني لأعز من مشى بين جبليها. ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهؤلاء أجنحة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً. كانت هذه الاعتداءات بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ما لشخصيته الفذة من وقار وجلال في نفوس العامة والخاصة، ومع ما له من منعة أبي طالب أعظم رجل محترم في مكة، أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما الضعفاء منهم - فإن الإجراءات كانت أقسى من ذلك وأمر، ففي نفس الوقت قامت كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعاً من التعذيب، ومن لم يكن له قبيلة فأجرت عليهم الأوباش والسادات ألواناً من الاضطهاد يفزع من ذكرها قلب الحليم. كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به. وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته. ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً فتخشف جلده تخشف الحية. وكن بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلاً، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شداً ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول لا واللَّه لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك أحد، أحد، حتى مر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون - وعلى رأسهم أبو جهل - يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية - أم عمار - في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى. وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمداً، أو تقول في اللات والعزى خيراً فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء باكياً معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فأنزل اللَّه {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]. وكان أبو فكيهة - واسمه أفلح - مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض. وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعاً من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً، يلوون عنقه تلوية عنيفة وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم. وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن، وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا. وأسلمت جارية لبني مؤمل - وهم حي من بني عدي - فكان عمر بن الخطاب - وهو يومئذ مشرك - يضربها، حتى إذا مل قال: إني لم أترك إلا ملالة. وابتاع أبو بكر هذه الجواري فأعتقهن، كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة. وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضاً آخر درعاً من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة. وقائمة المعذبين في اللَّه طويلة ومؤلمة جداً، فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه.
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة: عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم. فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة - قبل أن يسلما - وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا كما كلماه، فقالا له أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، لم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه. وقالت البطارقة: صدقاً أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم. ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً. فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ قال جعفر بن أبي طالب - وكان هو المتكلم عن المسلمين -: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث اللَّه إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللَّه لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين اللَّه، فعبدنا اللَّه وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن اللَّه من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} فبكى واللَّه النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا واللَّه لا أسلمهم إليكما ولا يكادون - يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه - فخرجا، وقال عمرو بن العاص لعبد اللَّه بن ربيعة واللَّه لآتينهم غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد اللَّه بن ربيعة لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه. فلما كان الغد قال للنجاشي أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائناً ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم، قال له جعفر نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد اللَّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض، ثم قال: واللَّه ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم واللَّه. ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون بلسان الحبشة - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم - والدبر الجبل بلسان الحبشة. ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فواللَّه ما أخذ اللَّه مني الرشوة حين رد علي ملكي، فأخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه. قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين لكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وجعفر في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق تقريباً، ثم إن تلك الأسئلة يدل فحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي. أخفقت حيلة المشركين، وفشلت مكيدتهم، وعرفوا أنهم لا يشيعون ضغينتهم إلا في حدود سلطانهم، ونشأت فيهم من أجل ذلك فكرة رهيبة. رأوا أن التفصي عن هذه "الداهية" لا يمكن إلا بكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن دعوته تماماً، وإلا فبإعدامه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأبو طالب يحوطه ويحول بينه وبينهم؟ رأوا أن يواجهوا أبا طالب في هذا الصدد.
قريش تهدِّد أبا طالب: جاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا واللَّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال: يا عم واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر - حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه - ما تركته، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فواللَّه لا أسلمك لشيء أبداً.
وأنشد: واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقر بذاك منك عيونا
قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى: ولما رأت قريش أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: واللَّه لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه. هذا واللَّه ما لا يكونأبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف واللَّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تركه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال: واللَّه ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك. لا تذكر المصادر التاريخية زمن هاتين الوفادتين لكن يبدو بعد التأمل في القرائن والشواهد أنهما كانتا في أواسط السنة السادسة من النبوة، وأن الفصل بين الوفادتين لم يكن إلا يسيراً.
فكرة الطغاة في إعدام النبي صلى الله عليه وسلم : وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما. فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ: {النجم إذا هوى} و {بالذي دنا فتدلى} ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن البزاق لميقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول يا ويل أخي هو واللَّه آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه. ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان. ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد اللَّه لأجلس له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليضع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: واللَّه لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا واللَّه ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني. قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه. وبعد ذلك فعل أبو جهل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أدى إلى إسلام حمزة رضي اللَّه عنه وسيأتي. أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.فوقف ثم قال: أتسمعون يا مشعر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول انصرف يا أبا القاسم، فواللَّه ما كنت جهولاً. فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط. انتهى ملخصاً. وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟. وفي حديث أسماء فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئاً من غدائره إلا رجع معنا.
إذا وجدت وصلات لاتعمل في الموضوع او أن الموضوع [ حصريا ولأول مره على المنتدى قصه سيدنا محمد (أشرف خلق الله عليه الصلاه والسلام)( كامله) ] مخالف ,, من فضلك راسل الإدارة من هنا