(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ) "الكرب" أي الغمّ الذي يأخذ النفس، كذا في الصحاح، وقيل: الكرب أشد الغم - قاله الواحدي، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "هو ما يُدهم المرءَ مما يأخذ بنفسه فيغمه ويحزنه" اهـ. في رواية لمسلم: (كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب)، وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا: (كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أمرٌ) أي هجم عليه أو غَلبه، أو نزل به همٌّ أو غمٌّ (قال
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)التَّهْلِيل – أي قوله: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ - الْمُشْتَمِل عَلَى التَّوْحِيد َهُوَ أَصْل التَّنْزِيهَات الْجَلَالِيَّةلله تعالى(الْعَظِيمُ)أي العظيمُ ذاتا وصفة؛ فلا يتعاظم عليه مسألةٌ؛ لأن الْعَظَمَة تَدُلّ عَلَى تَمَام الْقُدْرَة ،(الْحَلِيمُ)الذي لا يَعْجَلُ بالعقوبة؛ فلم يعاجل بنقمته على مَن قصَّر في خدمته، بل يكشف المضرَّةَ عنه برحمته سبحانه وتعالى، ، وَالْحِلْمُ يَدُلّ عَلَى الْعِلْم ، إِذْ الْجَاهِل لَا يُتَصَوَّر مِنْهُ حِلْم وَلَا كَرَم ، وَهُمَا أَصْل الْأَوْصَاف الْإِكْرَامِيَّة .
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)، أي فلا يُطْلَبُ إلا مِنْه، ولا يُسْأَلُ إلا هو، لأنه لا يكشف الكرب العظيم إلا الرب العظيم،
ومعنى "الرب" في اللغة يُطْلق على المالك والسيد والمدبر والمربى والمتمم والمنعم، ولا يطلق غير مضافٍ إلا على الله تعالى، وإذا أطلق على غيره أضيف، فيقال رب كذا. و استخدام لفظ "الرب" من بين سائر الأسماء الحسنى لكونه مناسبا لكشف الكرب الذي هو مقتضى التربية.
وتخصيص "العرش" بالذكر لأنه أعظم أجسام العالم، فيدخل الجميعُ تحتَه دخولَ الأدنى تحت الأعلى.
(لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)وهذا إطناب مرغوب وإلحاح مطلوب. ووصف العرش هنا بالكريمِ أي الحَسَنِ؛ فهو ممدوحٌ ذاتًا وصفةً من حيث الكيف . وفي الجملة الأولى: وصف العرشَ بالعظمة من حيث الكَمِّ .
مسألة:قَالَ الطَّبَرِيُّ : مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس " يَدْعُو " - في أول الحديث في إحدى الروايات: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يدعو عِنْدَ الْكَرْبِ) - وَإِنَّمَا هُوَ تَهْلِيلٌ وَتَعْظِيمٌ يَحْتَمِل أَمْرَيْنِ:
رواه أبو داود (1525) وغيرُه، وحسّنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربّانية (4/10)
شرح الحديث:
وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«إذا أصاب أحدكم همٌّ أو لَأْوَاء فلْيَقُلِ : اللَّهُ... اللَّهُ رَبِّى؛ لاَ أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً"»أخرجه الطبراني في الأوسط، وحسَّنه الشيخ الألبانيُ في صحيح الجامع (349) .
وفي رواية أخرى : «كان إذا رَاعَه شيءٌ قال : "هو اللَّهُ رَبِّى؛ لاَ أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً"» ( صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحه)
(أَلاَ أُعَلِّمُكِ) بكسر الكاف خطابا لمؤنث (كَلِمَاتٍ) عبر بصيغة جمع القِلَّة إيذانًا بأنها قليلة اللفظ؛ فيسهل حفظها، ونكَّرها تنويهًا بعظيم خطرها ورفعة محلها؛ فتنوينها للتعظيم،
(تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ) "الكرب" هو ما يُدْهِم المرءَ مما يأخذ بنفسه فيُحزنه ويغمّه، وفي رواية أخرى: (إذا أصاب أحدكم همٌّ أو لَأْواء فليقل "اللأواء": شدة وضيق معيشة،
(اللَّهُ... اللَّهُ) تكرير لفظ الجلالة استِلْذَاذًا بذِكْره، واستحضارًا لعظمته، وتأكيدًا للتوحيد؛ فإنه الاسم الجامع لجميع صفات الجلال والجمال والكمال، (رَبِّى)أي الـمُحسِنُ إليّ بإيجادي من العدم، وتوفيقي لتوحيده وذِكْره والـمُربِّي لي بجلائل نِعَمِه، والمالكُ الحقيقيُّ لشأني كله ، ثم أفصح بالتوحيد وصرح بذكره المجيد فقال:
(لَا أُشْرِكُ بِهِ)،أي لا أشرك بعبادته - أي فيها- (شَيْئا) من الخَلْق برياء، أو طلبِ أجرٍ لـمَنْ يسرّه أن يطلع على عمله، فالمراد من الشرك في الحديث الشرك الخفي، أو المراد لا أشرك بسؤاله أحدًا غيره
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: "اللَّهُمَّ إِنِّى عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِى بِيَدِكَ، مَاضٍ فِىَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِىَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ: سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ،أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِى عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِى، وَنُورَ صَدْرِى، وَجَلاَءَ حُزْنِى، وَذَهَابَ هَمِّى" إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: « أَجَلْ. يَنْبَغِى لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ » رواه الإمام أحمد، وابن حبان (3/253) وصحّح إسنادَه الشيخُ شعيب في تحقيق ابن حبان. شرح هذا الحديث المهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في آخره في حق كلمات هذا الحديث: (يَنْبَغِى لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ) :
قوله: (مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: "اللَّهُمَّ إِنِّى عَبْدُكَوَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ)أي: ابن جاريتك، وهو اعتراف بالعبودية، وفي رواية أخرى: ( فِيْ قبضتك)أي: في تصرُّفك وتحتَ قضائك وقدرك، ولا حركة لي ولا سكون إلا بأقدارك؛ وهو إقرار بالربوبية،
(نَاصِيَتِى بِيَدِكَ)أي لا حول ولا قوة إلا بك، وهو مقتبس من قوله تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) في سورة هود،
(مَاضٍ)أي ثابتٌ ونافذٌ (فِىَّ)أي في حقِّي (حُكْمُكَ) أي حُكمُك الأمريُّ أو الكونيُّ؛ كإهلاكٍ وإحياءٍ، ومنعٍ وعطاء ،
(عَدْلٌ فِىَّ قَضَاؤُكَ)أي ما قدَّرتَه عليَّ؛ لأنَّك تصرفتَ في مُلْكك على وِفْق حِكْمَتِك،
(أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ: سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ)أي ذاتَك، وهو مُجْمَلٌ، وما بَعده تفصيلٌ له على سبيل التنويع لخاصٍ؛ أعني قولَه: (أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ)أي في جِنْس الكُتب الـمُنزَّلة، (أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ)أي: مِن خُلاصِتهم؛ وهم الأنبياء والرسل، (أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ) أي تفردتَ به واحتفظته(فِى عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ) فلم تُلْهِمْه أحدًا، ولم تُنزِلْه في كتابٍ،
(وَنُورَ صَدْرِى) مِن أوَّلِ قولِه " أن تجعل القرآن...إلخ" هذا هو مطلوب العبد، والجُمُل السابقة وسائل إليه، فأظهر العبدُ أولُا غايةَ ذُلّتِه وصِغَارِه، ونهايةَ عجزِه وافتقارِه، ثُمّ ثانيًا بيَّن عَظَمةَ شأنِه وجلالَة اسمِه سبحانه، بحيث لم يبقَ فيه بقيةً، وأَلطفَ في المطلوب حيث جعل المطلوبَ وسيلةً إلى إزالة الهمِّ المطلوب أولًا. وجعلَ القرآنَ ربيعَ القلب، وهو عبارة عن الفرح، لأن الإنسان يرتاع قلبه في الربيع من الأزمان، ويميل إليه في كل مكان، وأقول: كما أن الربيعَ سببُ ظهور آثار رحمة الله تعالى وإحياء الأرض بعد موتها، كذلك القرآن سببُ ظهور تأثير لطف الله من الإيمان والمعارف وزوال ظُلمات الكُفر والجهل والهرم،
(اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ) الهمُّ إنما يكون في أمر متوقع، والحزَن فيما وقع. والهم هو الحُزْن الذي يُذيب الإنسان، فهو أشد من الحزن، وهو خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، وقال القاضي: الفرق بين الهم والحزن أن الحزن على الماضي، والهم للمستقبل ،
(وَالْعَجْزِ) القصور عن فعل الشئ ، وهو ضد القدرة ، وأصله التأخر عن الشئ.
(وَالْكَسَلِ) التثاقل عن الشئ مع وجود القدرة والداعية
(وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) شدة تسلطهم بغير حق تغلُّبا وجدلا، كَاسْتِيلَاءِ الرِّعَاع هَرْجًا وَمَرْجًا . اِسْتَعَاذَ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يَغْلِبهُ الرِّجَال لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَهْن فِي النَّفْس وَالْمَعَاش.
قال ابن القيم: كل اثنين منها قرينتان:
1- فالهم والحزن قرينتان؛ إذِ المكروهُ الوارد على القلب إنْ كان من مستقبلٍ يتوقعه أحدثَ الهمَّ، أو من ماضٍ أحدثَ الحزنَ ،
2- والعجز والكسل قرينتان؛ فإنْ تخلف العبد عن أسباب الخير؛ إن كان لعدم قدرته فالعجز، أو لعدم إرادته فالكسل ،
3- والجبن والبخل قرينتان؛ فإنّ عدم النفع إنْ كان ببدنه فالجبن، أو بماله فالبخل ،
4-وضلع الدين وقهر الرجال قرينتان؛ فإن استعلا الغَيْرُ عليه؛ إنْ كان بحقٍ فضلعُ الدينِ، أو بباطل فَهُمٌ الرجال. انتهى من كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.
(تنبيه) قال بعضهم: يجب التدقيق في فهم كلام النبوة ومعرفة ما انطوى تحته من الأسرار ؛
فالمحقِّق ينظر ما سببُ حصولِ القهر من الرجال فيجده من الحِجاب عن شُهود كونه سبحانه هو المحرِّكَ لهم حتى قهروه، فيرجع إلى ربّه فيكفيه قهرَهم،
والواقف مع الظاهر لا يشهده من الحق، بل من الخَلْق، فلا يزال في قهر!
ولو شهِدَ الفِعْلُ من الله لزال القهرُ ورضيَ بحُكم الله، فما وقعتِ الاستعاذةُ إلا من سبب القهر الذي هو الحجاب. قال تعالى:
رواه الترمذي (3505) واللفظ له والإمام أحمد (3/170)، وحسّنه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كما في الفتوحات الربّانية (11/10). شرح الحديث:
(دَعْوَةُ ذِى النُّونِ) أي دعوة صاحب الحوت؛ وهو يونس عليه السلام (إذا) أي: حينَ (دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) أي إنك أنت الإله المعبود الحق الذي تَقْدر على حِفْظ الإنسان حيًا في باطن الحوت، ولا قدرة لغيرك على هذه الحالة،
ثم أَرْدفَ عليه السلام ذلك بِقَوْلِه: (سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين) تصريحًا منه بالعجز والانكسارِ، وإظهار الذّلّة والافتقار لله جلَّ وعلا،
قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله تعالى : "ما نجا إلا بإقراره على نفسه بالظلم"،
(فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ) بنيَّةٍ صادقةٍ صالحةٍ (إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) لأنها لـَمَّا كانت مسبوقةً بالعَجْز والانكسار، مَلْحوقٌة بهما صارت مقبولةً كما قال تعالى: {أَم مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [سورة النمل: 62]، فإن قيل : هذا ذِكْرٌ لا دعاء قلنا : هو ذكرٌ يُستفتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء، أو: هو كما ورد في حديثٍ – لكن في إسناده مقال : "مَنْ شغَله ذِكْري عن مَسئلتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السائلين"
انظر –بتصرفٍ كثير جدا: فيض القدير للمناوي رحمه الله تعالى.
قال الشيخ السعدي في تفسيره:
فنادى في تلك الظلمات: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأقرَّ لله تعالى بكمال الألوهية، ونزَّهه عن كل نقصٍ، وعيبٍ وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته.
قال الله تعالى: { فَلَوْلاأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ولهذا قال هنا [ ص 530 ]، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي الشدة التي وقع فيها،{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وهذا وعدٌ وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغَمٍّ أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام. فائدة:
قال فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله تعالى:
(وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلمقال: « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِى الرَّخَاءِ » . قَالَ الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ([1])
من سرّه أى: من أراد أن يرى السرور في الشدة، والتفريج للكُرَب؛ فليكثر الدعاء عند رخائه؛ ليجد أثر ذلك عند شدائده، فإذا كنت في أيامك مطيعًا ومقبلاً وحافظاً لحدوده، وواقفًا عندها ومراعيًا لحقوقه، وممتثلاً لأوامره، ومنتهيًا عن نواهيه، وتتقرب إليه بالنوافل، وأصابك الشيطان والنفس والهوى، ووقعت في التقصير والتفريط إذا برحمة الله تعالى تنتشلك وتحيطك مما وقعت فيه، وإذا بدعائك في الرخاء يقف لك عند الشدة.
وخرّج ابن أبي حاتم وغيره عن أنس مرفوعاً: « أنَّ يونس - عليه السلام - لمَّا دعا في بطن الحوت ، قالت الملائكة : يا ربِّ ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة »، الصوت معروف، لكن أين ؟ لا نعرف؛« فقال الله - عز وجل - : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : ومَنْ هوَ ؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة ؟ قال : نعم ، قالوا : يا ربِّ ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى ، قال :
فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء ».
وهذه القصة -بغض النظر عن السند ([2])، ففي سندها مقال- إنما معناها قد ذكره المولى -سبحانه وتعالى- بقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات : 143-144]يعني: لولا أنه كان من المصلين الداعين في رخائه؛ لما استجيب له دعاؤه في الشدة، وللبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، وهذا كان ليونس -عليه السلام- فما بالك بنا نحن؟!
يعني: لما يقال عن يونس - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}فكيف بنا نحن إن كان نبي الله يونس عليه السلام كان سيلبث إلى يوم يبعثون لولا أنه كان من المسبحين؟!...
فلنبادر إذن إلى انتهاز أيام الرخاء؛ فلعلها لا تعود، وكلنا في حاجةٍ إلى رحمة الله تعالى في أيام الكرب والبلاء.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله تعالى في الرخاء؛ يذكركم في الشدة، وإن يونس -عليه السلام- كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله -عز وجل-:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله -جل وعلا- فلما أدركه الغرق {قَالَ آَمَنْتُ } [ يونس : 90]، فقال الله تعالى له: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [ يونس : 91]، لا ليس الآن.
فينبغي - أخي الكريمَ- أن تُصلح أحوالَ نفسِك، حتى لا يُقال لك أيضا: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه :«إذا كان العبد يذكر الله في السّراء ويحمده في الرخاء، فأصابه ضرٌ، فدعا اللهَ؛ قالتِ الملائكة : "صوت معروف من أمرئ ضعيف". فيشفعون له» ، أى: هذا صوت معروفٌ بين الحين والآخر يَصعَد منه إلى الله تعالى دعاءٌ وعملٌ صالح، «وإن كان العبد لا يذكر الله في السراء ولا يحمده في الرخاء، فأصابه ضر، فدعا اللهَ ؛ قالت الملائكة: "صوتٌ منكرٌ". فلم يشفعوا له.»([3]).
قال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه: أوصني. قال: اذكر الله تعالى في السراء؛ يذكرك الله -عز وجل- في الضراء.
وعنه -أي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ادْعُ الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الطلاق : 2] قال: يُنجِّيه من كل كربٍ في الدنيا والآخرة.
انتهى بتصرف كثيرٍ واختصار من "شرح حديث: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ- الطبعة الثالثة" لفضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله تعالى.
--------------------------------------------
[1]- رواه الترمذي (3382) ط دار الكتب العلمية، بيروت، وقال: حديث غريب، وحسَنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6290)
[2]أخرجه ابن حاتم في تفسيره وفي إسناده ضعف: فيه يزيد الرقاشي، ورُوي أيضا بنحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه في مسند البزار وتفسير ابن جرير. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية بعد ما ذكر حديثَ أنسٍ وأبي هريرةَ رضي الله عنهما: "ويزيد الرقاشي ضعيف، ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم كما يتقوى ذاك بهذا والله أعلم".
وعنأَبِى بَكْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
رواه الترمذي (3563) واللفظ له وقال حديث حسن غريب، وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أُحُدٍ دينًا لأدَّاه الله عنك. قل يا معاذ: "اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكِ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَرَحِيمَهُمَا، تُعطيهما مَن تشاءُ، وتمنع منهما من تشاء ، ارْحَمْنِي رَحْمَةً تُغْنِيني بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاك"»